بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم الإخاء في الإسلام
الأصل في الإخاء انه اشتراك الطرفين في الولادة القريبة أو البعيدة . أما القريبة فمثل موسى وهارون عليهما السلام ، فقد كان بينهما إخاء في الأب والأم قال تعالى مخبرا عنهما : { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي } قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : { قَالَ ابْنَ أُمَّ } كان ابن أمه وأبيه وقال ابن كثير : شقيقه لأبيه وأمه وهذا هو الإخاء في النسب القريب . و أما البعيد فمثل عاد وهود ، قال تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } قيل : أخوهم في القبيلة ، وقيل : بشر من بني أبيهم آدم والمراد بالإخاء هنا ، الإخاء في الدين والحرمة ، وهو أن يتآخى مجموعة من الناس في العقيدة ، ويشتركوا في الدين ، قال تعالى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وقد وصف الله المؤمنين بأنهم إخوة ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وإنما وصفهم بالاخوة ، لأن كل واحد منهم يتوخى مذهب أخيه ويقصده فلا يفارقه اعتقادا ، وعملا ، وسلوكا .
ونحن إذا دققنا النظر في مسمى الإخاء ومدلوله اللغوي والشرعي ، وجدنا أنه تنتظمه ثلاثة أنواع :
أ-أخوة في النسب والقرابة ، وهي المراد في باب المواريث ، مثل قوله تعالى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وكل إنسان يولد مزودا بها .
ب-أخوة في الآدمية والإنسانية ، وهي المراد في مطلق الإنسان ، أو بني آدم ، أو النوع قال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } قال ابن كثير : استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة أي استدل بها من قال بأن بني آدم -و هم جنس البشر -أفضل من الملائكة . وقال تعالى : { يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } أي جميع الناس مؤمنهم وكافرهم ، نسيبهم ودعيهم ، قريبهم وبعيدهم ، حاضرهم وغائبهم .
ج-أخوة في الدين والعقيدة ، وهذه هي المرادة في باب الإيمان وفروعه ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وقوله تعالى : { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } أي أصبحتم بالإسلام إخوانا متحابين بجلال الله تعالى ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى وفي الحديث : « المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره » وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا النوع من الأخوة .
لماذا بني الإسلام الأخوة على أساس الإيمان دون النسب والجنس ؟
إن الإسلام لم يبن الأخوة على النسب والجنس لكونهما مبنيين على الالتقاء الجسدي المادي وهو لا يكون جماعة قوية متماسكة ، تصمد لعواصف التمزق والتفرق ، ورياح الاختلاف والتنازع ، لا سيما إذا كان الاختلاف في الفكر والتصور ، والعقيدة والمنهج ، ومن المشاهد المتكررة ، إن أبناء النسب يتقاتلون متى اختلفت عقائدهم وأهدافهم ، وتضاربت أفكارهم ومذاهبهم ، بينما يتعامل أبناء الدين والعقيدة ، ويتعاونون فيما بينهم وإن اختلفت أنسابهم وألوانهم ، وتغايرت أوطانهم ولغاتهم . ولأجل هذا أقام الإسلام أخوة البشر على الإيمان ، لأن الإيمان رابطة قوية ، تستولي على الروح والضمير ، فتجعله خاضعا لصوتها ، أضف إلى ذلك ، أنها لا تحد بالحدود النسبية واللونية ، ولا بالحدود القومية والوطنية ، ولا بالحدود الإقليمية والجغرافية ، وإنما تتجاوزها بحذافيرها وتشمل أقطار الأرض كلها ، لأنها تهدف إلى إقامة مجتمع بشري عالمي ، يسوده الإخاء والمودة .
مقومات الأخوة الإسلامية :
إذا كان العمران بلا عمود ينهد ، فكذلك الأخوة الإسلامية تصاب بالخروق إذا فقدت الأساس الذي تقوم عليه ، والذي يمدها بالثبات والاستقرار ، ولو ذهبنا نعدد مقومات هذه الأخوة ، لا نحصيها كثرة ، ولكن سنوجزها في الآتي :
أ-المحبة والولاء : لا يمكن أن تتحقق أخوة الإسلام إلا إذا أحب المسلم أخاه المسلم محبة صادقة تصدر من القلب والضمير ، فتترجمها الجوارح والأعضاء ، يسلم عليه إذا لقيه ، ويساعده إذا احتاج إليه ، ويكرمه إذا نزل عنده ويجلب إليه الخير كله ، ويدفع عنه الشر كله ، حتى انه من كثرة حبه له ينزله منزله نفسه ، أو أقرب الناس إليه .
الأمثلة على ذلك :
مثال من القرآن الكريم ، قوله تعالى : واصفا حال الأنصار مع من هاجر إليهم من مؤمني مكة { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } روى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال : (لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال سعد لي : أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا ، فانظر شطر مالي فخذه ، وتحتي امرأتان ، فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها ) أي حب أعظم من هذا ، أن يطلق لك أخوك زوجته ، وكريمته حتى تتزوجها وأي إخاء أمتن من أن يشاطرك أخوك ماله وجهده .
ب -الصبر واحتمال الأذى : المؤمن يصبر محتسبا لما يجده من إخوانه من جفاء وغلظة ، ويتحمل كل ما يلقاه منهم من إساءة وأذى قولي أو فعلي ، حفاظا على الأخوة ، وحرصا على بقائها واستمرارها ، فلو ذهب ينتقم من كل من أساء إليه ، ويدفع سيئته بمثلها ، ربما لا ينتهي الدور ، خصوصا إذا كان المنتقم ، أضعف من المنتقم منه ، ولا أحد يعينه على قضاء وطره منه ، فيصبح الناس في دوامة العنف والبطش ، وهذا أشد خطورة من مصلحة الانتقام . قال تعالى عن هذا : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
ج- حفظ السر وترك الفضيحة ، والمؤمن ستار لعيوب أخيه ، مهما بلغت من الخطورة غايتها ، ما لم يكن مجاهرا بها ، مفتخرا بالتلبس بها ، حتى يصون كرامة أخيه ، ويمنعها من التردي والانحطاط لو افتضح أمام الناس ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يستر عبد عبدا في الدنيا ، إلا ستره الله يوم القيامة »
ما السر في منع الإسلام إعلان العيوب وإشهارها ؟ لقد منع الإسلام إعلان العيوب وإشهارها ، واعتبر الإعلان نفسه جريمة أخرى ، منفصلة عن جريمة مرتكب المعايب والذنوب لأمرين :
أ-إتاحة الفرصة للمذنب أن يراجع نفسه ويتوب إلى الله ، فلو افتضح أمره ، وانكشف ذنبه ، فقد ضاع الحياء من وجهه ، وربما أغراه الافتضاح والتشهير على السير قدما في المعايب والرذائل . أما لو ظل عيبه مستورا ، فإن الاحتفاظ بسمعته ، وسيرته يبقى قائما لديه ، ولذلك نصح الإسلام بعدم كشف العيب ، فقد روى معاوية -رضي الله عنه -قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم » وروى عقبة ابن عامر -رضي الله عنه -مرفوعا « من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة »
ب-منع انتشار الفساد في الأرض ، فإعلان العيوب والعورات دون أن يصحبه العقاب ، يفسد الجو الاجتماعي ، ويغري الناس بارتكابها ، وكان ذلك الإعلان بمثابة تنبيه وتعليم للأشرار وكثيرا ما يصرح الفساق بأن ما ارتكبوه من الذنوب ، لم يكن إلا نتيجة لما تعلموه من خلال خبر كتبته صحيفة ، أو بثته إذاعة ، أو عرضه تلفاز ، أو تناقلته ألسنة الناس .
حالات يجب ستر العورة فيها ، أوجب الإسلام ستر العورة والعيب في الحالات التالية :
أ- الزنا الذي لم يبلغ نصاب الشهود فيه أربعة أشخاص .
ب-أن يكون الذنب -من حيث أثره -يخص المذنب ولا يتعداه إلى غيره .
ج-أن يكون الإعلان له يؤدي إلى فساد أكبر ، وضرر أوسع .
د-أن يكون الإعلان سببا لإسقاط ثقة الإنسان ، الذي ينتفع الناس بثقته .
ه-أن يكون المذنب مستفتيا ، يبحث عن حكم الشرع في ذنبه ، وطريق التوبة منه .
حالات يجب كشف العورة فيها : ويجب كشف العورة فيما عدا الحالات السابقة وخاصة إذا كان المذنب مجاهرا بذنبه ، عارفا لحكم الله ، ويعاقب عليه حتى لا يتشجع الناس على اقترافه .
تميز رابطة الأخوة الإسلامية على غيرها من الروابط : إن رابطة الأخوة الإسلامية عميقة الأثر في كيان الجماعة ، لا تعدلها رابطة أخرى من الجنس أو اللغة أو الوطن ، أو الجوار أو المصلحة المادية المشتركة ، بل إن هذه الروابط مجتمعة ، مهما يكن أثرها الظاهري من كف الأذى ، وبذل المعروف ، تظل روابط سطحية ، لا تزال تتخللها الفجوات والثغرات ، حتى تشدها رابطة الأخوة الروحية ، والقيم العليا ، فهنا تعود الكثرة وحدة .
ثمرة الإخاء ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين :
أ-ثمرة في الدنيا : وهي كالآتي :
- الوحدة والجماعة : فالمسلمون يتحدون بالأخوة ، ويجتمعون عليها ، فهم حقا يتمثل فيهم قوله صلى الله عليه وسلم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا »
- إزالة الفوارق الطبقية والاجتماعية : فالاخوة الإسلامية تذيب الفوارق النسبية والامتيازات الطبقية ، لا يفضل أحدهم على آخر إلا بالجد والعمل ، كلهم متساوون في الحقوق والواجبات { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }
- النصح والإرشاد : فالمسلمون إخوة ، يتناصحون فيما يهمهم من أمور الدنيا والآخرة ، هذا التناصح الذي لم يكن ليحصل ، لولا امتلاء قلوبهم بالحب الصادق لأخوتهم ، ورغبتهم الملحة لجلب المعروف إلى ساحتهم ، وإبعاد المنكر عنها .
- تقدم المسلمين في كل مجال وميدان : فإن لهذه الأخوة أثرا كبيرا في نشأة الحضارة ، لأنه ما من مجتمع يتفرق أفراده ، إلا ويتخلف عن ركب الحضارة تضرب عليه الذلة والمسكنة لعدم التآخي فيه ، وبقدر تباعد أفراده واختلافهم وعدم اتحادهم ، يتسرب إليهم الضعف والوهن ، فتذوب قوتهم وتذهب ريحهم ، ويصبحون أذلة بعد عزة .
ب-ثمرته في الآخرة : وهي كالآتي :
- الحصول على مرضاة الله بدخول الجنة : فإن المؤمن إذا آخى مؤمنا ، وأحبه ، أدخله الله الجنة لأنه آخى من أمر الله بمؤاخاته ، وأحب من أمر الله بحبه ، وفي الحديث : « لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء لو فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم »
- الأمن من شدائد يوم القيامة وأهواله : فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أصناف يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ، وفيه : « ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه ، وتفرقا عليه » والمراد بالتظليل ، هو النجاة من دنو الشمس وشدة حرها ، وهذا لا يحصل إلا للإخوة المتحابين .
- الفوز بدعوة المؤمنين الصالحين قبل وبعد الموت : وذلك أن كل مصل ، يدعو في تشهده بهذا الدعاء : ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) وهو دعاء عام ، يصيب كل عبد صالح في السماء والأرض والصلاح يتحقق بإتيان كل معروف شرعه الله ، واجتناب كل منكر نهى الله عنه ، ومن المعروف : أن تحب من وافقك في القصد والتوجه ، وتؤاخي من شاركك في العمل والأداء ...............................(موقع المكتبة الشاملة)